[size=16]إن الحمد لله نحمده ، و نستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا .
من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .وأ شهد أ ن محمداً عبدُه و رسولُه .
يَاأَيها الذين آ مَنُوا اتقُوا اللهَ حَق تُقَا ته ولاتموتن إلا وأنتم مُسلمُون
يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ
وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً
وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً
يَا أ يها الذين آ منوا
اتقوا الله وقولوا قَو لاً سَديداً يُصلح لَكُم أَ عما لكم وَ يَغفر لَكُم
ذُ نُو بَكُم وَ مَن يُطع الله وَ رَسُولَهُ فَقَد فَازَ فَوزاً
أما
بعد:فإن أحسن الكلام كلام الله تعالى وخير الهدي هدي محمد-صلى الله عليه
وسلم- وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في
النار.
أيها المسلمون
حديثنا في هذا اليوم المبارك سوف يدور حول كبيرة من كبائر الذنوب والآثام
انتشرت –مع الأسف الشديد- بين المسلمين وفي مجتمعاتهم انتشارا واسعا،
وتهاونوا بأمرها، واتخذوها مطية للوصول لكثير من الأغراض الدنيئة في دينهم
ودنياهم، إنها شهادة الزور، والزور هو الكذب الذي قد سُوّي وحُسّن في
الظاهر ليُحسب أنه صدق، وهو وصف الشيء على خلاف ما هو به وعليه، فيشمل
الكذب والباطل، هذا إذا اقتصر على المقصود بجانب من جوانبه التي إذا أضيف
لها الشهادة أصبح المتبادر إليها في أذهان كثيرين بأن شهادة الزور التي هي
الشهادة بالكذب ليتم التوصل بها إلى الباطل من إتلاف نفس أو أخذ مال أو
تحليل حرام أو تحريم حلال. وشهادة الزور وقول الزور وعمل الزور كلها بمعنى
متقارب.
والأصل في الشهادة أن تكون مساندة لجانب الحق ومعينة للقضاة على
إقامة العدل بين الناس والحكم على الجناة الذين تنحرف بهم أهواؤهم
وشهواتهم فيظلمون أو يبغون أو يأكلون أموال الناس بالباطل، فإذا تحوّلت
الشهادة عن وظيفتها حتى تصبح سندًا للباطل ومضللة للقضاة حتى يُحكم بغير
الحق استنادًا إلى ما تضمنته من إثبات فحينئذٍ تحمل إثم جريمتين عظيمتين في
وقت واحد، الأولى: عدم تأديتها وظيفتها الطبيعية الموافقة للفطرة السليمة.
والثانية:
قيامها بجريمة تُهضم فيها الحقوق ويُظلم فيها البرآء ويُستعان بها على
الظلم والبغي والإثم والعدوان، وقد نهى الله المسلمين عن الظلم أيًا كان،
وعن التعاون على الإثم والعدوان بعدما أمرهم بالتعاون على البر والتقوى
وعدم التعدي على أي شخص أو مجموعة مهما بلغت العداوة والبغضاء، فقال
تعالى وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ
وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [المائدة:2].
إن شهادة الزور
مفسدة للدين والدنيا وللفرد وللمجتمع على حد سواء، إلى جانب كونها معصية
لله ورسوله، وهي كذب وبهتان وضياع للحقوق وإسقاط للعدالة وزعزعة للثقة
والأمانة والأمن أيضًا في المجتمع وإرباك للأحكام وإشغال للمسؤولين على
اختلاف مسؤولياتهم، وشهادة الزور تعدل الشرك بالله كما ورد في الحديث: ((عدلت شهادة الزور الشرك بالله)).
ولعظم
قبح شهادة الزور وخطورتها وتأكيد تحريم قول الزور وشهادته كان الرسول
متّكئًا عندما أخبر عن عدد من كبائر الذنوب، ثم جلس عندما ذكر قول الزور
وشهادة الزور، وأصبح يرددها حتى قال من سمعه: ليته سكت، فهذا يدل على أن
الذي يدفع ويحمل الشخص على قول الزور وشهادته أشياء متعددة ومنها: العداوة
والبغضاء والحسد والغلّ والحقد والانتقام وغير ذلك، فلما كانت مفسدة الزور
متعدية إلى غير الشاهد بخلاف الشرك المقتصرة مفسدته على الشخص غالبًا لذلك
كان الاهتمام بذلك من رسول الله وتعظيم أمره بعد الاعتدال في هيئته عليه
الصلاة والسلام من الاتكاء إلى الجلوس وإعادة أداة التنبيه مرة أخرى بقوله:
((ألا)).
فعن أبي بكرة قال: قال النبي : ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) ثلاثًا، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين))، وكان متّكئًا فجلس فقال: ((ألا وقول الزور وشهادة الزور))، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت. رواه البخاري ومسلم.
وعن أيمن بن خزيم الأسدي أن النبي قام خطيبًا فقال: ((أيها الناس، عدلت شهادة الزور إشراكًا بالله))،
ثم قرأ رسول الله فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ
وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّور)ِ [الحج:30] رواه وأبو داود في سننه وغيره.
وورد في الحديث المتفق على صحته عن أنس قال: سُئل رسول الله عن الكبائر، قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وشهادة الزور)).
وروى البخاري رحمه الله من حديث أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله : ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)).
وشاهد الزور يرتكب عظائم ومفاسد عليه وعلى غيره توجب له النار، روى الحاكم رحمه الله بسند صحيح أن النبي قال: ((لن تزول قدم شاهد الزور حتى يوجب الله له النار)). وقال رسول الله : ((من قَضَيْتُ له من مال أخيه بغير حق فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار)).
فشهادة
الزور تسبب لشاهد الزور وللمشهود له دخول النار وعذابها، إلى جانب أنها في
الدنيا تطمس معالم العدل والإنصاف، وتعين الظالم على ظلمه، وتضيّع حقوق
الناس، وتظلم بعضهم على حساب بعض، وتعطي الحق لغير مستحقه، وتسبب زرع
الأحقاد والضغائن في القلوب، وتعصف بالمجتمع وتدمّره، وتقوّض أركانه،
وتزعزع استقراره، وهذه النتائج قد تغيب على كثير من شهود الزور، وقد يعلمها
بعضهم ولكن الدوافع والأسباب التي أوقعتهم فيها قد تكون من أجل مصلحة
شخصية أو رغبة في مالٍ أو جاهٍ أو لأجل الصداقة أو القرابة أو العداوة
للطرف الثاني أو المحاباة والمجاملة أو الخوف من صاحب المنصب والجاه أو
السلطة، وقد تكون سَلَفًا وقرْضَة، أي: أن شخصًا شهد زورًا لشخص في يوم ما
وبذلك فهو يردّ له شهادته، وقد تكون مقابل مبالغ مالية زهيدة، فتجدهم يقفون
عند أبواب المحاكم وغيرها، وغالبًا ما تكون الشهادة حمية جاهلية كما هو
مشاهد الآن في القرى بل وحتى في المدن وأحيائها، حيث يشهد عدد من الأشخاص
من قبيلة أو من قبائل متقاربة على شخص ما، وكأنهم لم يقرؤوا آيات القرآن
الكريم وأحاديث الرسول في تحريم ذلك والتحذير منه ، قال تعالى: (يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ
لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ
إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا
تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا
فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [النساء:135]، وقال عز
وجل يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ
شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ
تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة:8]، وقال تعالى: (سَتُكْتَبُ
شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ) [الزخرف:19].
فعلى هذا الصنف من الناس أن
يتذكروا العواقب على هذا الذنب الخطير في الدنيا والآخرة، وأذكرهم بقول
الله جل وعلا وما فيه من التهديد والوعيد والعواقب المؤلمة: قال تعالى
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا
اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا).
فاتقوا الله عباد الله واحذروا عضبه وعذابه ونقمته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما
بعد: فيتبادر إلى أذهان كثير من الناس أن شهادة الزور مقصورة على تلك التي
يذهب إليها شاهد الزور في المحاكم وغيرها مع فلان من الناس من أجل اقتطاع
جزء من أرض فلان أو أخذها بالكامل أو اقتطاع أي مال نقدي أو غيره، أو
الشهادة على شخص في أمور أخرى باطلة، والحقيقة أن هذا المفهوم السائد مفهوم
خاطئ، وهو حصر وقصر لا أساس له من الصحة في دين الإسلام، حيث إن شهادة
الزور أشمل وأوسع من ذلك، حيث يدخل في مفهوم شهادة الزور صور كثيرة جدا
ومتنوعة جامها الشهادة على غير وجه الحق والحقيقة في أي مجال ديني أو
دنيوي.
فواجب المسلم أن يتقي الله تعالى، ويبتعد عن شهادات الزور أيًا كانت، ولا يتهاون بشأنها في أي مجال كان.
أسأله جل وعلا أن يعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن وأن يعز الإسلام والمسلمين.
والحمد لله رب العالمين.
[/size]