يقول الله تعالى في كتابه الكريم «كل نفس ذائقة الموت، وإنما توفون أجوركم
يوم القيامة، فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز، وما الحياة الدنيا
الا متاع الغرور» سورة آل عمران آية (185)، وهكذا أيها الاخوة المؤمنون
:كتب الله الموت على كل نفس، فهو نهاية كل حي، وما ذكر الموت في مجلس أو
قوم إلا تملكتهم الخشية وأخذتهم الرهبة، وسالت منهم الدمعة، وهو قضاء الله
عز وجل وقدره على عباده، وهو حدث نقرأه في كل يوم أو نراه أو نسمعه، لا
نملك عند قراءته أو رؤيته أو سماعه إلا أن نكرر قول الله تعالى (إنا لله
وإنا اليه راجعون) سورة البقرة آية (156).
وفي هذا المقام المبارك أود أن أذكركم بجملة من المعاني الجديرة بالذكرى، فمن ذلك يا معشر المسلمين:
ü
ان الموت قدر الله، لا يستطيع أحد أن يفر من هذا القدر، وهو كأس لابد أن
يتجرعه الجميع، فالأنبياء المطهرون والرسل المقربون صفوة الصفوة يموتون،
وقد خاطب الله نبيه أكرم الخلق عليه وأخبره أنه سيموت، فقال تعالى: «إنك
ميت وإنهم ميتون» سورة الزمر آية 30، وقال تعالى: «وما جعلنا لبشر من قبلك
الخلد، أفإن مت فهم الخالدون» سورة الأنبياء آية 34، وصدق الشاعر حيث يقول:
كل ابن انثى وإن طالت سلامته
يوما على آلة حدباء محمول
إنه قدر الله الذي لا مفر منه حتى لو تحصن الإنسان بأمنع الحصون وأمتن
القلاع، قال الله تعالى: «أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج
مشيدة» سورة النساء آية 78 .
إن للموت ساعة لا يتقدم عنها ولا يتأخر، قال الله تعالى: «فاذا جاء أجلهم
لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون» سورة الأعراف آية 34، وهو غير مرتبط بصحة
أو مرض أو قتال أو قعود، فلا الصحة تطيل العمر ولا المرض يقصره، ولا القتال
في سبيل الله يدني الآجال، ولا التخلف والقعود عنه يطيل الأعمار وإن خيل
ذلك للبعض، لأن عقيدة المؤمن، أن الموت هو انتهاء الأجل.
ويرحم الله الشاعر القائل :
فكم من صحيح مات من غير علة
وكم من سقيم عاش حينا من الدهر
ولذلك نهانا الله تعالى عن ربط الموت بالسفر او الغزو، بمعنى أن نعتقد أن
ذلك من الأسباب المؤدية اليه، فقال جل شأنه: «ياأيها الذين آمنوا لا تكونوا
كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم اذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا
عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم، والله يحيى
ويميت، والله بما تعملون بصير» سورة آل عمران آية 156 .
وقال الله تعالى حكاية عن المنافقين: (الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو
أطاعونا ما قتلوا، قل فادرؤا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين) سورة آل
عمران آية 168 .
لقد أخفى الله عن عباده ساعة أجلهم، وهذا لطف منه وحكمة، وإلا عاش الانسان
في خوف وهلع، وربما أصابه اليأس وقعد عن العمل، ولكن الله وحده يختص بعلم
من يموت أو بأي ارض يموت، ومن هنا فلا أحد من البشر يعلم ذلك لأنه غيب، قال
الله تعالى: (وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي ارض تموت، إن
الله عليم خبير» سورة لقمان آية (34) .
ولقد نهى الدين الاسلامي عن تمني الموت، وحكمة النهي عن تمني الموت أن فيه
نوع اعتراض على القدر الإلهي، فعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله علي
وسلم قال: «لا يتمنين احدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لابد متمنيا للموت
فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني اذا كانت الوفاة خيرا
لي) رواه الخمسة.
وهكذا كان على المؤمن أن يفهم سر وجوده في هذه الحياة، ورسالته التي كلف
بها، فنحن الآن في دار التكليف والعمل، وغدا يكون الموت ومن بعده الحساب،
قال الله تعالى: «تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير، الذي خلق
الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا، وهو العزيز الغفور» سورة الملك آية
1-2 .
والمؤمن من شأنه أن يذكر الموت دائما، فعن ابي هريرة رضي الله عنه عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أكثروا من ذكر هاذم اللذات»، رواه الترمذي
والنسائي.
ومن ذكره فلا بد أن تكون آثار ذكره ظاهرة في سلوكه مع نفسه ومع الآخرين
ومع رب العالمين، فالموت زاجر للنفس عن المحرمات، وهو باعث للنفس على
الطاعات والقربات، إنه يزهد في الدنيا، ويرغب في صالح الأعمال، ويؤثر في
السلوك تأثيرا حسنا، فيصبح المسلم من أهل الله في قوله وسلوكه وتصرفاته،
لأن الموت أكبر موعظة باعثة على الإستقامة والصلاح، فقد روي أن عمر رضي
الله عنه كان يلبس خاتما نقش عليه (كفى بالموت واعظا يا عمر) فالاتعاظ
بالموت لابد منه، فمن ذكره في قليل من أعماله الصالحة كثرها، اي سارع الى
المزيد منها، ومن ذكره في كثير من أمور الدنيا كالمال ونحوه قلله الله في
عينيه وزهده فيه.. وذكر الموت يحيي اليقين في النفس، فالمؤمن لا يخاف
الموت، لأنه لقاء مع الله، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله
كره الله لقاءه، فقالت عائشة، أو بعض أزواجه: إنا لنكرهالموت، قال: ليس
ذلك، ولكن المؤمن اذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب
اليه مما أمامه، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر اذا حضره
الموت بشر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره اليه مما أمامه، فكره لقاء
الله وكره الله لقاءه» رواه الخمسة.
ولذلك فإن من جملة ما أوصانا به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقوله اذا أوينا الى فراشنا كل ليلة: « باسمك ربي وضعت جنبي وبك ارفعه، إن امسكت نفسي فاغفرلها وإن ارسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين» رواه البخاري.
يقول الشاعر :
ولدتك امـــــــــك يا ابن آدم باكيا
والناس حولك يضحكون سرورا
فاحرص على يوم تكون اذا بكوا
في يوم موتك ضاحكا مسرورا
لقد جاءت تشريعات هذا الدين الحنيف شاملة لكل أحوال الإنسان، في حياته
وعند احتضاره وبعد مماته، فمن جملة ما سن لنا ديننا الحضور عند المحتضر،
وتلقينه كلمة التوحيدوقراءة سورة يس، وبين الرسول صلى الله عليه وسلم ثواب
ذلك، فعن ابي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«لقنوا موتاكم لا اله إلا الله» رواه الخمسة.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان
آخر كلامه لا اله إلا الله دخل الجنة» رواه أبو داود.
وعن معقل بن يسار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اقرأوا
يس على موتاكم» رواه ابو داود. والحكمة من ذلك أن المحتضر يأنس بها لما
فيها من ذكر الله واحوال البعث والقيامة والجنة، ولأنها قلب القرآن، ومن
هذه الأحكام التي جاء بها الاسلام تكريما للإنسان غسله وتكفينه والصلاة
عليه ودفنه، وأحكام ذلك مثبتة في كتب الفقه، لا يتسع المقام لذكرها، ولكن
أحب أن اشير الى أن الدين امرنا اذا وقعت مصيبة الموت أن نواسي بعضنا وأن
نخفف عن المصاب ما نستطيع، وذلك بشهود الجنازة والصلاة عليها ودفنها وتعزية
اهل المتوفى وتقديم الموعظة لهم بالصبر وعدم النياحة.
ولقد بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثواب الصلاة على الجنازة وشهود
دفنها والقيام بواجب التعزية، فعن ابي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: «من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن
شهدها حتى تدفن فله قيراطان، قيل وما القيراطان، قال: مثل الجبلين
العظيمين» متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله
من حلل الكرامة يوم القيامة» رواه ابن ماجة، والصلاة على الميت فيها تكريم
له، وشروطها ما يشترط لغيرها من الصلوات، من الطهارة وستر العورة واستقبال
القبلة. وحكمة الصلاة على الميت الدعاء له رجاء الشفاعة، فعن ابي هريرة
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اذا صليتم على الميت
فأخلصوا له الدعاء»، رواه ابو داود.
إن الانسان بعد الموت يعيش حياة تسمى الحياة البرزخية، وهي الحياة في
القبر، وهو إما حفرة من حفر النار وإما روضة من رياض الجنة، فليكنالمؤمن
دائما مع الله ومستعدا للقاء الله بالعمل الصالح وبالتوبة والاستغفار،
فالناس محاسبون بأعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وكل ما يعمله المؤمن
مسطور في صحيفته، فعن ابي هريرة رضي الله عنه قال، قرأ رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (يومئذ تحدث اخبارها) ثم قال: أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله
ورسوله أعلم، قال: فإن اخبارها أن تشهد على كل عبد او أمة بما عمل على
ظهرها، تقول: عملت كذا وكذا، في يوم كذا وكذا، فهذه اخباره»، رواه الترمذي،
فلنتق الله ولنعمل صالحا يرضاه، لنسعد في الدنيا والآخرة.
تزود من حيــــــــــاتك للمعاد
وقم لله واجمع خير زاد
ولا تركن الى الدنيــــا كثيرا
فإن المال يجمع للنفـاد
اترضى أن تكون رفيق قوم
لهم زاد وانت بغيــر زاد
روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه خرج الى المقبرة، فلما أشرف
عليها قال: «ياأهل القبور، أخبرونا عنكم، أو نخبركم، أما خبر من قبلنا:
فالمال قد اقتسم، والنساء قد تزوجن، والمساكن قد سكنها قومغيركم، ثم قال:
أما والله لو استطاعوا لقالوا: لم نر زاداً خيراً من التقوى».
لقد آن للنائم أن يستيقظ من نومه، وحان للغافل أن يتنبه من غفلته قبل هجوم
الموت بمرارة كأسه، وقبل سكون حركاته وخمود أنفاسه، ورحلته الى قبره.
فتفكر في الموت وسكرته، وصعوبة كأسه ومرارته، كفى بالموت مقرحا للقلوب،
ومبكيا للعيون، ومفرقاً للجماعات وهاذما للذات، وقاطعاً للآمال والامنيات.
ورضي الله عن سلمان الفارسي إذ كان يقول: ثلاث اعجبتني حتى اضحكتني: مؤمل
والموت يطلبه، وغافل وليس يغفل عنه، وضاحك ملء فيه ولا يدري اساخط رب
العالمين أم راض، وثلاث أحزنتني حتى ابكتني، فراق الأحبة - محمد وحزبه، -
وهول المطلع، والوقوف بين يدي الله، ولا أدري الى الجنة يؤمر بي أو الى
النار.