الحمد
لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الناس وكفى بالله
شهيداً؛ وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً به وتوحيداً؛
وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً
إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
تسليماً كثيراً .
أما بعد؛ عباد الله :
فإنَّ
الواجب على المسلم أن يكون مخلصاً بأعماله لله رب العالمين؛ مبتغياً وجه
الله بذلك، فالإخلاص من أجلّ العبادات القلبية التي يظهر أثرها على اللسان
والجوارح، وبه يتميز العمل المقبول من المردود، وحقيقة الإخلاص أن يستوي
عند المسلم الغيب والشهادة؛ والسر والعلانية؛ والجماعة والخلوة، وأن يخلِّص
عمله من الشوائب كلها قليلها وكثيرها؛ حتى يتجرد فيه قصد التقرب إلى الله؛
فلا يكون فيه باعث سواه .
فكل
شيء يُتصور أن يشوبه غيره، فإذا صفا عن شوبه وخلص منه سُمِّي خالصاً ولذلك
قال يحيى بن معاذ : « الإخلاص تمييز العمل من العيوب كتمييز اللبن من
الفرث والدم » .
والإخلاص شرط في قبول الأعمال؛ فإنه لا يُقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً لوجه الله وكان صاحبه متّبعاً سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال الله تعالى:(فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحدا)،قال
الفضيل بن عياض: « العمل الصالح أخلصه وأصوبه، فإن العمل إذا كان صالحاً
ولم يكن صواباً لم يُقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى
يكون خالصاً صواباً، والخالص إذا كان لله ﻷ، والصواب إذا كان على السنة».
من
أجل ذلك فلا بد للمسلم أن يُفَرِّغ قلبه لخالقه سبحانه فلا يبقى فيه شرك
لأحد مع الله؛ وأن يخرج حظوظ النفس وملاحظة الخلق من جميع أعماله ظاهراً
وباطناً، وهذه منزلة لا يُوَفق إليها إلا من أراد الله ﻷ به خيراً؛ وذلك أن
الإخلاص من أشد الأمور على النفس لأنه ليس لها فيه نصيب، وإنما هو بذل
العمل لله دون النظر إلى متاع الدنيا .
والإخلاص
قائد إلى أبواب الخير؛ جامع لخصال البر؛ هادٍ إلى سبل الرشاد والنعيم
المقيم في دار الكرامة؛ ويدفع عن أصحابه مصارع السوء؛ ولذلك عظمت الوصية به
من النبي صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة الكرام؛ لأن قيام الأعمال عليه؛ ولن تُقطف ثمرةُ العمل إلا إذا أحسن الغرس؛ وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: « ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب».
فهذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم أن
صلاح القلب مستلزم لصلاح سائر الجسد؛ وفساده مستلزم لفساده؛ فإذا رُئيَ
ظاهرَ الجسد فاسداً غير صالح، عُلِم أن القلب ليس بصالح بل فاسد، ويمتنع
فساد الظاهر مع صلاح الباطن، كما يمتنع صلاحُ الظاهر مع فساد الباطن؛ إذ
كان صلاحُ الظاهر وفسادُه ملازماً لصلاح الباطن وفساده ؛ قال سفيان بن
عيينة : « كان العلماء فيما مضى يكتب بعضهم لبعض بهؤلاء الكلمات؛ من أصلح
سريرته أصلح الله علانيته؛ ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه
وبين الناس؛ ومن عمل لآخرته كفاه الله ﻷ أمر دنياه » .
وقد
اعتنى السلف بإصلاح السرائر لعلمهم أن إصلاحها ينتج عنه صلاح الأعمال
والأحوال مما يعود عليهم بالنفع في الدين والدنيا، وفي أمر الآخرة والأولى؛
قال عمر بن الخطاب t لرجل: « عليك بعمل العلانية. قال: يا أمير المؤمنين؛ وما عمل العلانية؛ قال: ما إذا اطُّلِع عليك لم تستحي منه» .
وليس
تحقيق الإخلاص بالأمر السهل؛ ولذلك كان أشد ما يكون على صاحب العمل؛ قال
أيوب السختياني: « تخليص النيات على العُمّال أشد عليهم من جميع الأعمال »؛
وقال بعض السلف: « في إخلاص ساعة نجاة الأبد، ولكن الإخلاص عزيز».
وكان
سلف الأمة -رحمهم الله- يجتهدون في المحافظة على الإخلاص في أعمالهم
بالرغم من تزيُّن الدنيا لهم؛ وبالرغم من كثرة الدواعي التي تدور حولهم
لإظهار أعمالهم؛ ومع ذلك كانوا شديدي التمسك بحسن النوايا وإخلاص أعمالهم
لله تعالى؛ فأعقبهم الله ـ رفعة في الدنيا؛ وعلو شأن في العلم والعمل
والذكر الحسن؛ لما وافق قلوبهم من الإخلاص؛ قال عبدة بن سليمان: « كنا في
سرية مع عبد الله بن المبارك في بلاد الروم فصادفنا العدو؛ فلما التقى
الصفان خرج رجل من العدو فدعا إلى المبارزة؛ فخرج إليه رجلٌ فطارده ساعة
فطعنه فقتله؛ ثم آخر فقتله؛ ثم آخر فقتله، فازدحم الناس عليه، وكنت فيمن
ازدحم عليه، فإذا هو يلثم وجهه بكمه، فأخذْتُ بطرف كمه فمددته، فإذا هو عبد
الله بن المبارك؛ فقال: وأنت يا أبا عمر ممن يشنع علينا؟».
والإخلاص
في النية سبب لجريان الأجر وإن لم يعملِ المسلمُ العملَ الصالح ؛ وقد قال
قائل: « دلوني على عمل لا أزال به عاملاً لله تعالى؛ فقيل له: انوِ الخير،
فنيَّتُك لا تزال عاملاً وإن لم تعمل؛ فالنية تعمل وإن عُدِم العمل » .
وقال جعفر بن حيان: « ملاك هذه الأعمال النيات ، فان الرجل يبلغ بنيته ما لا يبلغ بعمله ».
والإخلاص سبب للوقاية من مصارع السوء وموارد الهلاك، وقد جاء في السنة النبوية الشريفة ما يوضح ذلك؛ فقد قال النبيصلى الله عليه وسلم: «
انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت
صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار؛ فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا
أن تدعوا الله بصالح أعمالكم.
قال
رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً
ولا مالاً؛ فنأى بي طلبُ الشجر يوماً فلم أرِح عليهما حتى ناما؛ فحلبت لهما
غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلاً أو
مالاً؛ فلبثت -والقدح على يدي- أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر والصبية
يتضاغون عند قدمي؛ فاستيقظا فشربا غبوقهما؛ اللهم إن كنتُ فعلت ذلك ابتغاء
وجهك ففرِّج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئاً لا يستطيعون
الخروج منه.
قال
الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنة عم كانت أحب الناس إلي، وفي رواية: كنت
أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، فأردتها عن نفسها فامتنعت مني؛ حتى ألمت
بها سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني
وبين نفسها ففعلت، حتى إذا قدرت عليها، وفي رواية: فلما قعدت بين رجليها،
قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي
وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك ففرِّج عنا
ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها .
وقال
الثالث: اللهم استأجرت أجراء وأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له
وذهب، فثمَّرْتُ أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد
الله أدِّ إليَّ أجري، فقلت: كلُّ ما ترى من أجرك- من الإبل والبقر والغنم
والرقيق- فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي؛ فقلت: لا أستهزئ بك، فأخذه كله
فاستاقه فلم يترك منه شيئاً، اللهم إنْ كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك ففرِّج
عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون» .
فهذا
الحديث العظيم يبين كيف أن الإخلاص كان سبباً في إنقاذ هؤلاء النفر
الثلاثة، حيث توسلوا إلى الله سبحانه بالعمل الصالح الذي أخلصوا فيه للهﻷ؛
ففرج الله عنهم بذلك؛ ووقاهم مصرع السوء .
فهذا حثٌّ على الإخلاص وبيانٌ لأهميته؛ فإذا كانت تلك ثمراته الدنيوية من تفريج الكروب؛ فكيف بأجره عند الله ـ يوم القيامة؟ .
فلذا
ينبغي على المسلم العاقل أن يجاهد نفسه أشد المجاهدة ليُنقِّي أعماله من
الشوائب؛ حتى تكون خالصة لوجه الله تعالى؛ ولذا قال بعض السلف:« إن لله
عباداً عقلوا؛ فلما عقلوا علموا؛ فلما علموا أخلصوا؛ فاستدعاهم الإخلاص إلى
أبواب البر أجمع » .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
http://www.salemalajmi.com/main/play-191.html
الخطبة الثانية
الحمد
لله على إحسانه؛ والشكر له على توفيقه وامتنانه؛ وأشهد أنْ لا إله إلا
الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه؛ وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله الداعي
إلى رضوانه؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأعوانه .
أما بعد أيها المسلمون :
فالإخلاص من أعظم أسباب النجاة من عذاب الآخرة؛ قال الله تعالى: (ويطعمون
الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد
منكم جزاء ولا شكوراً* إنا نخاف من ربنا يوما عبوساً قمطريراً*فوقاهم الله
شر ذلك اليوم ولقّاهم نضرة وسروراً*وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً )؛ وفي ذلك أتم بيان على أن العبد إذا عبَدَ الله مخلصاً له الدين حال رخائه مشفقاً من عذابه، فإن ذلك سببٌ لنجاته .
والإخلاص سبب لمحبة الله تعالى وأهل السماوات للمخلص؛ ووضعِ القبول له في الأرض؛ قال صلى الله عليه وسلم:«
إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال: إني أُحِبُّ فلاناَ فأحْبِبْه؛
فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه؛ فيحبه
أهل السماء؛ ثم يوضع له القبول في الأرض» .
كما
أن الإخلاص من أسباب وقاية دين العبد من الآفات، ولذلك لما اشتد البلاء
بيوسف عليه السلام ؛ حيث تعرضت له امرأة العزيز وراودته عن نفسه؛ فقد لجأ
إلى الله ﻷ مخلصاً أن ينجيه من الوقوع في الفتنه والإثم؛ فاستجاب الله
دعاءه لِما علم من إخلاصه في مناشدته ربه النجاة من الفتنه؛ حتى صار السجنُ
أحبَّ إليه من الوقوع في معصية الله؛ حيث قال:(ربِّ السجن أحبُّ إليّ مما يدعونني إليه)، فنجاه الله تعالى بسبب إخلاصه؛ وأثنى عليه بقوله تعالى:(كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلَصين). وكذلك
كلُّ من صرف الله تعالى عنه الإثم ودواعيه؛ فإن ذلك دليلٌ على تدينِه
وإخلاصه وأن الله قد أراد به خيراً، وجعل من علامات ذلك أنْ صرفه عن
الإثمِ؛ وصرَفَ الإثمَ عنه .
لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الناس وكفى بالله
شهيداً؛ وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً به وتوحيداً؛
وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً
إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
تسليماً كثيراً .
أما بعد؛ عباد الله :
فإنَّ
الواجب على المسلم أن يكون مخلصاً بأعماله لله رب العالمين؛ مبتغياً وجه
الله بذلك، فالإخلاص من أجلّ العبادات القلبية التي يظهر أثرها على اللسان
والجوارح، وبه يتميز العمل المقبول من المردود، وحقيقة الإخلاص أن يستوي
عند المسلم الغيب والشهادة؛ والسر والعلانية؛ والجماعة والخلوة، وأن يخلِّص
عمله من الشوائب كلها قليلها وكثيرها؛ حتى يتجرد فيه قصد التقرب إلى الله؛
فلا يكون فيه باعث سواه .
فكل
شيء يُتصور أن يشوبه غيره، فإذا صفا عن شوبه وخلص منه سُمِّي خالصاً ولذلك
قال يحيى بن معاذ : « الإخلاص تمييز العمل من العيوب كتمييز اللبن من
الفرث والدم » .
والإخلاص شرط في قبول الأعمال؛ فإنه لا يُقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً لوجه الله وكان صاحبه متّبعاً سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال الله تعالى:(فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحدا)،قال
الفضيل بن عياض: « العمل الصالح أخلصه وأصوبه، فإن العمل إذا كان صالحاً
ولم يكن صواباً لم يُقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى
يكون خالصاً صواباً، والخالص إذا كان لله ﻷ، والصواب إذا كان على السنة».
من
أجل ذلك فلا بد للمسلم أن يُفَرِّغ قلبه لخالقه سبحانه فلا يبقى فيه شرك
لأحد مع الله؛ وأن يخرج حظوظ النفس وملاحظة الخلق من جميع أعماله ظاهراً
وباطناً، وهذه منزلة لا يُوَفق إليها إلا من أراد الله ﻷ به خيراً؛ وذلك أن
الإخلاص من أشد الأمور على النفس لأنه ليس لها فيه نصيب، وإنما هو بذل
العمل لله دون النظر إلى متاع الدنيا .
والإخلاص
قائد إلى أبواب الخير؛ جامع لخصال البر؛ هادٍ إلى سبل الرشاد والنعيم
المقيم في دار الكرامة؛ ويدفع عن أصحابه مصارع السوء؛ ولذلك عظمت الوصية به
من النبي صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة الكرام؛ لأن قيام الأعمال عليه؛ ولن تُقطف ثمرةُ العمل إلا إذا أحسن الغرس؛ وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: « ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب».
فهذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم أن
صلاح القلب مستلزم لصلاح سائر الجسد؛ وفساده مستلزم لفساده؛ فإذا رُئيَ
ظاهرَ الجسد فاسداً غير صالح، عُلِم أن القلب ليس بصالح بل فاسد، ويمتنع
فساد الظاهر مع صلاح الباطن، كما يمتنع صلاحُ الظاهر مع فساد الباطن؛ إذ
كان صلاحُ الظاهر وفسادُه ملازماً لصلاح الباطن وفساده ؛ قال سفيان بن
عيينة : « كان العلماء فيما مضى يكتب بعضهم لبعض بهؤلاء الكلمات؛ من أصلح
سريرته أصلح الله علانيته؛ ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه
وبين الناس؛ ومن عمل لآخرته كفاه الله ﻷ أمر دنياه » .
وقد
اعتنى السلف بإصلاح السرائر لعلمهم أن إصلاحها ينتج عنه صلاح الأعمال
والأحوال مما يعود عليهم بالنفع في الدين والدنيا، وفي أمر الآخرة والأولى؛
قال عمر بن الخطاب t لرجل: « عليك بعمل العلانية. قال: يا أمير المؤمنين؛ وما عمل العلانية؛ قال: ما إذا اطُّلِع عليك لم تستحي منه» .
وليس
تحقيق الإخلاص بالأمر السهل؛ ولذلك كان أشد ما يكون على صاحب العمل؛ قال
أيوب السختياني: « تخليص النيات على العُمّال أشد عليهم من جميع الأعمال »؛
وقال بعض السلف: « في إخلاص ساعة نجاة الأبد، ولكن الإخلاص عزيز».
وكان
سلف الأمة -رحمهم الله- يجتهدون في المحافظة على الإخلاص في أعمالهم
بالرغم من تزيُّن الدنيا لهم؛ وبالرغم من كثرة الدواعي التي تدور حولهم
لإظهار أعمالهم؛ ومع ذلك كانوا شديدي التمسك بحسن النوايا وإخلاص أعمالهم
لله تعالى؛ فأعقبهم الله ـ رفعة في الدنيا؛ وعلو شأن في العلم والعمل
والذكر الحسن؛ لما وافق قلوبهم من الإخلاص؛ قال عبدة بن سليمان: « كنا في
سرية مع عبد الله بن المبارك في بلاد الروم فصادفنا العدو؛ فلما التقى
الصفان خرج رجل من العدو فدعا إلى المبارزة؛ فخرج إليه رجلٌ فطارده ساعة
فطعنه فقتله؛ ثم آخر فقتله؛ ثم آخر فقتله، فازدحم الناس عليه، وكنت فيمن
ازدحم عليه، فإذا هو يلثم وجهه بكمه، فأخذْتُ بطرف كمه فمددته، فإذا هو عبد
الله بن المبارك؛ فقال: وأنت يا أبا عمر ممن يشنع علينا؟».
والإخلاص
في النية سبب لجريان الأجر وإن لم يعملِ المسلمُ العملَ الصالح ؛ وقد قال
قائل: « دلوني على عمل لا أزال به عاملاً لله تعالى؛ فقيل له: انوِ الخير،
فنيَّتُك لا تزال عاملاً وإن لم تعمل؛ فالنية تعمل وإن عُدِم العمل » .
وقال جعفر بن حيان: « ملاك هذه الأعمال النيات ، فان الرجل يبلغ بنيته ما لا يبلغ بعمله ».
والإخلاص سبب للوقاية من مصارع السوء وموارد الهلاك، وقد جاء في السنة النبوية الشريفة ما يوضح ذلك؛ فقد قال النبيصلى الله عليه وسلم: «
انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت
صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار؛ فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا
أن تدعوا الله بصالح أعمالكم.
قال
رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً
ولا مالاً؛ فنأى بي طلبُ الشجر يوماً فلم أرِح عليهما حتى ناما؛ فحلبت لهما
غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلاً أو
مالاً؛ فلبثت -والقدح على يدي- أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر والصبية
يتضاغون عند قدمي؛ فاستيقظا فشربا غبوقهما؛ اللهم إن كنتُ فعلت ذلك ابتغاء
وجهك ففرِّج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئاً لا يستطيعون
الخروج منه.
قال
الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنة عم كانت أحب الناس إلي، وفي رواية: كنت
أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، فأردتها عن نفسها فامتنعت مني؛ حتى ألمت
بها سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني
وبين نفسها ففعلت، حتى إذا قدرت عليها، وفي رواية: فلما قعدت بين رجليها،
قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي
وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك ففرِّج عنا
ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها .
وقال
الثالث: اللهم استأجرت أجراء وأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له
وذهب، فثمَّرْتُ أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد
الله أدِّ إليَّ أجري، فقلت: كلُّ ما ترى من أجرك- من الإبل والبقر والغنم
والرقيق- فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي؛ فقلت: لا أستهزئ بك، فأخذه كله
فاستاقه فلم يترك منه شيئاً، اللهم إنْ كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك ففرِّج
عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون» .
فهذا
الحديث العظيم يبين كيف أن الإخلاص كان سبباً في إنقاذ هؤلاء النفر
الثلاثة، حيث توسلوا إلى الله سبحانه بالعمل الصالح الذي أخلصوا فيه للهﻷ؛
ففرج الله عنهم بذلك؛ ووقاهم مصرع السوء .
فهذا حثٌّ على الإخلاص وبيانٌ لأهميته؛ فإذا كانت تلك ثمراته الدنيوية من تفريج الكروب؛ فكيف بأجره عند الله ـ يوم القيامة؟ .
فلذا
ينبغي على المسلم العاقل أن يجاهد نفسه أشد المجاهدة ليُنقِّي أعماله من
الشوائب؛ حتى تكون خالصة لوجه الله تعالى؛ ولذا قال بعض السلف:« إن لله
عباداً عقلوا؛ فلما عقلوا علموا؛ فلما علموا أخلصوا؛ فاستدعاهم الإخلاص إلى
أبواب البر أجمع » .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
http://www.salemalajmi.com/main/play-191.html
الخطبة الثانية
الحمد
لله على إحسانه؛ والشكر له على توفيقه وامتنانه؛ وأشهد أنْ لا إله إلا
الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه؛ وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله الداعي
إلى رضوانه؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأعوانه .
أما بعد أيها المسلمون :
فالإخلاص من أعظم أسباب النجاة من عذاب الآخرة؛ قال الله تعالى: (ويطعمون
الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد
منكم جزاء ولا شكوراً* إنا نخاف من ربنا يوما عبوساً قمطريراً*فوقاهم الله
شر ذلك اليوم ولقّاهم نضرة وسروراً*وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً )؛ وفي ذلك أتم بيان على أن العبد إذا عبَدَ الله مخلصاً له الدين حال رخائه مشفقاً من عذابه، فإن ذلك سببٌ لنجاته .
والإخلاص سبب لمحبة الله تعالى وأهل السماوات للمخلص؛ ووضعِ القبول له في الأرض؛ قال صلى الله عليه وسلم:«
إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال: إني أُحِبُّ فلاناَ فأحْبِبْه؛
فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه؛ فيحبه
أهل السماء؛ ثم يوضع له القبول في الأرض» .
كما
أن الإخلاص من أسباب وقاية دين العبد من الآفات، ولذلك لما اشتد البلاء
بيوسف عليه السلام ؛ حيث تعرضت له امرأة العزيز وراودته عن نفسه؛ فقد لجأ
إلى الله ﻷ مخلصاً أن ينجيه من الوقوع في الفتنه والإثم؛ فاستجاب الله
دعاءه لِما علم من إخلاصه في مناشدته ربه النجاة من الفتنه؛ حتى صار السجنُ
أحبَّ إليه من الوقوع في معصية الله؛ حيث قال:(ربِّ السجن أحبُّ إليّ مما يدعونني إليه)، فنجاه الله تعالى بسبب إخلاصه؛ وأثنى عليه بقوله تعالى:(كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلَصين). وكذلك
كلُّ من صرف الله تعالى عنه الإثم ودواعيه؛ فإن ذلك دليلٌ على تدينِه
وإخلاصه وأن الله قد أراد به خيراً، وجعل من علامات ذلك أنْ صرفه عن
الإثمِ؛ وصرَفَ الإثمَ عنه .