الحمد
لله الذي من علينا بالإسلام و هدانا للإيمان و أفاض علينا من آلائه
العظام, و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له من فأفضل و أعطى فأجزل و
أنعم فتكرم له المنة على من هداه و لا إله لنا سواه , و أشهد أن محمدا
عبده و رسوله خاتم أنبيائه و مبلغ أنبائه بعثه الله رحمة للعالمين و منة
للمؤمنين و محجة للسالكين و حجة على المعاندين لينذر من كان حياً و يحق
القول على الكافرين صلى الله عليه و على آله و أصحابه و من أتبع سنته و
اهتدى بهداه .
أما بعد أيها الناس .....
اتقوا الله تعالى و اشكروا ربكم على نعمه , واسألوه المزيد منها و الشكر
عليها , و إياكم و العمل بالمعاصي و كفر النعم فقلما كفر قوم بنعمة الله و
لم يفزعوا إلى التوبة إلا سلبوا عزهم و تسلط عليهم عدوهم . يأيها الذين
آمنوا اتقوا الله حق تقاته و لا تموتن إلا و أنتم مسلمون.
يأيها
المؤمنون بالله و لقائه و محمد صلى الله عليه و آله و سلم و رسالته, الحياة
الطيبة تكون في العمل الصالح و ابتغاء مرضاة الله قال الله تعالى( من عمل
صالحاً من ذكرٍ أو أنثى و هو مؤمن فلنحيينه حياتاً طيبه و لنجزينهم أجرهم
بأحسن الذي كانوا يعملون) . والحياة الطيبة أن يعيش الإنسان في أمنٍ ,فلا
يصيبه من الناس أذي , و أن يجد ما يسد به حاجته من نحو مطعم و ملبسٍ ومسكن ,
و أن يكون على طهارة نفس و استنارة فكر ,إذ بهذه الطهارة و الإستناره
يتهيأ له أن يجيب داعي الله ويتحلى بمكارم الأخلاق بيسرٍ و سماحه و إذا
كانت سعادة الأمة في طيب حياة أفرادها كان واجب كل فردٍ أن يوجه همته إلى
أن يكون سائر الأفراد من إخوانه في حياة طيبه . و من حكمة الله جل و عز أن
جعل بين الناس روابط و صلاة تربط بعضهم ببعض كرابطة الإتحاد في الدين
والعقيدة, و رابطة القرابة ، النسب و المصاهرة , و رابطة الجوار و السكن و
نحو ذلك .و أعطى كل رابطة منه حقها من جهة كف اشر عنها و سوق الخير إليها و
متى قامت هذه الروابط على أساس البر و المحبة و المودة و الرحمة و سارة في
سبيل التعاون و العطف عظمت الأمة و قوي شأنها , أما إذا أهملت حقوق
القرابة و الصداقة و الجوار شقيت الأمة و حل بها التفكك و الدمار و الله
تعالي يقول ( و تعاونوا على البر و القوى و لا تعاونوا على الإثم و العدوان
واتقوا الله إن الله شديد العقاب ).
أيها المؤمنون بالله و اليوم
الآخر من الروابط التي دعمها الإسلام و أوصى بمراعاتها و شدد بالإبقاء
عليها رابطة الجوار, فأوصى بالجار خيراً و إحسانا وحث على معاملته بالحسنى و
المعروف و مناصرته في الشدة ,و تهنئته في الرخاء , و الوقوف بجانبه في
البلاء و الإخلاص له في القول و بذل النصيحة له و حفظ سره , وستر أمره و
العفو عن زلته ,و تحمل سقطته و السعي لقضاء مئاربه , ومواصلته بما يستطاع
من إكرام و إحسان . أخرج الشيخان عن عبدا لله بن عمرو بن العاص قال قال
النبي صلى الله عيه و آله و سلم ( مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه
سيورثه )و هذا الحديث جاء في تعظيم حق الجار المجاور لك في الدار و إلا فإن
الجار يقال على المجاور في الدار و على الداخل في الجوار و كلٌ منهما له
حق ٌ و لابد من الوفاء به ويؤكد جبريل عليه السلام حق الجوار و كثر على
النبي صلى الله عليه و آله و سلم من ذلك حتى غلب على ظن النبي صلى الله
عليه و آله وسلم أن الله سيحكم بالميراث بين الجارين في قوله ( مازال جبريل
يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ) . مازال جبريل يكرر على المصطفي حق
الجار و يأتيه فيه بمختلف أنواع البر الصلة ينزل جبريل على النبي صلي الله
عليه وآله وسلم محملاً بالوحي من الله أن أكرم الجار ثم يعود ثانيةً فيبلغ
عن الله أن الله يأمرك أن تحسن إلى الجار ثم يؤكد المعنى و يعاود المضمون
حتى ظن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم أنه لم يبقى شئ من أنواع البر و
الصلة و المعروف إلا وقد أوصى الله أن يفعله الجار مع جاره ,و ما تزال
الصلات تتأكد بهذه التوصيات حتى لم يبقى من أوجه الصلات و القربى إلا
الميراث فظن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أنه لو زيد في تقريبه
لورثه كأنه لا فارق بين حقوق الأقارب و الجيران إلا الميراث , و هذا يدل
على أن الوصاية بالجار كانت على جانب عظيم من التأكد و الحث على رعاية
حقوقه في شريعة الإسلام.
من حقوق الجار التي ربى الإسلام المسلمين
عليها كف الأذى ,فلا تتخذ معرفة أحوال الجار سبيلاً لطعنه أو الاعتداء عليه
أو إلحاق الأذى به , بل يحميه ممن يريده بسوء و يقابل جفائه بالحلم و
هفواته بالصفح والعفو و ذلك أثر من آثار طهارة النفس . أخرج البخاري عن أبي
شريح أن النبي صلي الله عليه و آله و سلم قال (و الله لا يؤمن, والله لا
يؤمن ,و الله لا يؤمن قيل من يا رسول الله , قال الذي لا يأمن جاره بوائقه )
ومعنى بوائقه ظلمه و شره و الفتك به . و في هذا الحديث تأكيد حق الجار
بقسمه صلى الله عليه و آله و سلم على ذلك و تكرير اليمين ثلاث مرات و
المراد بنفي الإيمان في الحديث أي لا يؤمن إيماناً كاملاً , وهذا الحديث من
أحاديث الوعيد التي خرجت مخرج الزجر و التغليظ , إنه التغليظ الشديد فهذا
رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم و هو أعرف الناس بربه و أكثرهم تعظيماً
لمولاه و تقديراً لخالقه يقسم بالله ثلاثة أيمانٍ متوالية, يحلف رسول الله
صلى الله عليه و آله وسلم دون أن يبن هذا الذي خسر دنياه و أخراه حتى سأله
الصحابة من حوله من يا رسول الله هذا الذي هلك فيجيبهم عليه الصلاة و
السلام بأنه الذي لا يأمن جاره بوائقه, ذلك الذي يخافه جاره أن يفتك به ,
يخاف من المهالك التي يتسبب له فيها . فيا أيها المؤمنون بالله و اليوم
الآخر إن أذية الجار لها أنواع : فمن إذاية الجار الحديث بما يجري في بيته و
كشف أسراره بين الناس, و من إذاية الجار أن تسمعه فاحش القول و غليظ
الكلام, وأن تتعدى عليه ببدنك أو أن تسرق ماله , و أكبر من هذا كله ما
أخرجه الشيخان عن عبدا لله ابن مسعود رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أي
الذنب أعظم ( قال أن تجعل لله ندا و هو خلقك ,قلت إن ذلك لعظيم قلت ثم أي
قال أن تقتل ولدك من أجل أن يطعم معك , قلت ثم أي قال أن تزاني حليلة جارك
). فبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الطامة الثالثة و الكبيرة التي
بعد ذلك أن يزني الرجل بزوجة جاره .
من أجل ذلك جاء هذا الوعيد واصفاً
لعظم الذنب و صفاً كاشفاً زاجراً لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .و
هذا يدل على أن الجار قد سلك مع زوجة جاره مسالك الخداع و التغرير حتى
أغراها به و أفسد على زوجها فراشه و استقراره ومعنى حليلة جاره أي زوجة
جاره سميت بذلك لأنها تحل له .
لقد صدق رسول الله صلى الله عليه و آله و
سلم الذي لا ينطق عن الهوى أن المرء إذا لم يأمن جاره وكان منه على حذر ,
حل الخوف محل الرجاء والأمن , وكان كل جارٍ منقطعا عن جاره منعزلاً منفردا
ًوهذا هو عين التفكك في الأمة و الانحلال في الجماعة .
ومما ينبغي أن
يعلم أيها المسلمون أن الجار كما يكون في السكن كذلك يكون في العمل , و
المتجر في السوق , فالتاجر مع جاره التاجر لا يكشف الأسرار التي اطلع عليها
بحكم الجوار و لا يدعوا المشترين للإعراض عن جاره أو التعامل معه و لا أن
يلقي بغباره أو متاعه أمام محل جاره , وكذلك الجار في العمل و المعمل و
المصنع لا يؤذي جاره بحديثٍ فارغ أو تدخل في شؤونه أو الاستهزاء به أو ما
هو أعظم من ذلك و هو الوشاية و الكذب عليه , أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي
الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قال ( من كان يؤمن بالله
و اليوم الآخر فلا يؤذي جاره ) إنه تذكير بأمرين عظيمين ربط بهما عدم أذية
الجار؛ تذكيرٌ بالإيمان بالله الذي خلق فسوى و قدر فهدى و الذي يعلم السر و
أخفي و تذكير باليوم الآخر يومٌ تجزى فيه كل نفسٍ بما كسبت , يومٌ يجد فيه
المؤذي لجاره إذايته ماثلةً سوداء في صحائفه و جاء في حديث المرفوع أخرجه
الطبراني من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعاً ( الجيران ثلاثة ؛ جارٌ له حق و
هو المشرك له حق الجوار ؛ وجار له حقان وهو المسلم له حق الجوار وحق
الإسلام؛ و جارٌ له ثلاثة حقوق مسلمُ له رحم له حق الجوار و حق الإسلام
والرحم ) و الله تعالى يقول ( و اعبدوا الله و لا تشركوا به شيئاً و
بالوالدين إحسانا و بذي القربى و اليتامى و المساكين و الجار ذي القربى و
الجار الجنب و الصاحب بالجنب ) . و يحصل الامتثال بهذه الوصية بإيصال ضروب
الإحسان إلى الجار بحسب الطاقة كالهدية و السلام و طلاقة الوجه عند لقائه
وتفقد أحواله و معاونته فيما يحتاج إليه وكف أسباب الأذى عنه على اختلاف
أنواعها . و يختلف الحال بالنسبة للجار الصالح و غير الصالح ؛ فالذي يشمل
الجميع إرادة الخير له و موعظته بالحسنى و الدعاء له بالهدايه و ترك
الإضرار به و دعوته إلى الصلاح بالرفق و اللين , و أما الجار الكافر فإن
حقه ترك الإضرار به و عدم أذيته ووعظه و دعوته و عرض الإسلام عليه و يبين
له جاره محاسن دين الإسلام و يرغبه فيه برفقٍ و لينٍ و لطف و الله تعالى
يقول ( و من أحسن قولاً ممن دعا إلى الله و عمل صالحاً قال إنني من
المسلمين ) و يقول تعالى (ادعوا إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنه و
جادلهم بالتي هي أحسن ).
الخطبة الثانية :
أيها المؤمنون بالله و
لقائه ,لقد كان للجار عند المتقدمين بل و إلى زمنٍ قريب من عصرنا كان له
منزلة الأخ الشقيق تصان حرمته و تحفظ غيبته حتى بلغ من أخلاقهم في معاملتهم
لجيرانهم أنهم كانوا يرون في الجار العوض في كل ما يفقدونه و الساعد الذي
يواجهون به الشدة و القوه التي يدفعون بها الشر و العون الذي يدرؤون به
غائلة الفقر,و من ثم لم يكونون يؤثرون بالجوار الصالح مالاً و لا عرضاً من
الدنيا ففيه أنس وحشتهم و راحة بالهم واستقرار حياتهم و به الأمن على كل
مرتخصٍ و غالىٍ عندهم .
نعم هذه الأخلاق الإسلامية التي ربى عليها
الإسلام أبنائه فكانوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً, فيحمل غنيهم
فقيرهم و يعين قويهم ضعيفهم,لا شحناء و لابغضاء و لا ضغائن و لا أحقاد
بينهم قد ربط الود بين مشاعرهم و جمع الإيمان أفئدتهم فهم أسرة واحده و إن
تفرقت الأنساب واختلفت الأجناس و اللغات .
أما اليوم فأصبحنا و أكثرنا و
حق الجار بيننا ضائع و حرمته تكاد تكون مفقوده و مكانته تكاد معدومة و
أصبح الجار يخاف جاره غالباً و ينظر إليه بنظرً آخر و يخشى شره ؛ فهذا يكشف
ستر جاره و هذا يتطاول بالبنيان على ذلك , وصار بعض الجيران مع بعض في
خلافٍ دائم و شجارٍ مستمر و أضحى بعض الناس اليوم يفتخر بمقاطعة جيرانه و
جهله بهم و عدم معرفته بأسمائهم .و بعض الناس اليوم يهاتف كثيراً من معارفه
و أصحابه في أقصى البلاد و أبعدها ثم هو لا يعرف حق جاره الذي ليس بينه و
بينه إلا جدار, فكانت النتيجة أن حل التقاطع بين الجيران و دبت بينهم
الفرقة و التباعد و العزلة و الخلاف و غفلنا عن وصية الله لنا في كتابه
العزيز حينما أوصى بالجار خيرا وأن النبي صلى الله عليه و آله وسلم أمر
بمراعاة إحساس الجار و المحافظة على شعوره و عدم جرح كرامته إبقاءً على
الصلة و حفاظاً للرابطة .
ما أجمل أيها المسلمون أن تأخذ بهذا المبدأ
العظيم حتى يكون الجار مع جاره كالجسد الواحد و بمعرفة حقوق الجار و انتظام
حياة الجيران على الود و المحبة و التناصح بذلك يذهب التنافر بين الجيران و
يحل محله التراحم و التآزر على مرافق الحياة و يكون بينهم التعاون على
البر و التقوى و بإصلاح هذه الرابطة تطوى عن المحاكم قضايا كثيرة لا منشأ
لها إلا عدم رعاية حقوق الجوار فاتقوا الله أيها المسلمون و أصلحوا ذات
بينكم و أطيعوا الله و رسوله إن كنتم مؤمنين . أقول هذا القول و أستغفر
الله لي و لكم من كل ذنب فاستغفروه و توبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم .